الصحة- من عبء اجتماعي إلى استثمار استراتيجي للنمو الاقتصادي المستدام

المؤلف: علي محمد الحازمي08.23.2025
الصحة- من عبء اجتماعي إلى استثمار استراتيجي للنمو الاقتصادي المستدام

لطالما استحوذت الأنظمة الصحية على اهتمام واسع النطاق، وغالباً ما كانت مرتبطة بمفاهيم تشاؤمية مثل الأعباء المالية المتزايدة، والعجز المستمر، والتكاليف الباهظة. على مدى عقود طويلة، كان يُنظر إلى الإنفاق على الرعاية الصحية على أنه التزام مجتمعي بحت، وليس استثماراً اقتصادياً ذا جدوى. بمعنى آخر، كان يُعتقد أنه يقع على عاتق الدولة كواجب أخلاقي، وليس كمصدر محتمل للعائدات الاقتصادية. ومع ذلك، بدأ هذا التصور التقليدي يشهد تحولاً ملحوظاً. فمع التغيرات العالمية المتسارعة والنجاحات الملموسة التي حققتها بعض الدول، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن النظام الصحي الفعال لا يمثل مجرد بنداً في قائمة المصروفات، بل هو ركيزة أساسية للاستراتيجية الوطنية، وقادر على تحقيق قيمة مضافة كبيرة وتحفيز النمو الاقتصادي المستدام.

الاقتصاد المعاصر يعيد الآن صياغة العلاقة المعقدة بين الصحة والتنمية الشاملة. العامل الذي يتمتع بصحة جيدة يكون أكثر إنتاجية في عمله، وأقل عرضة للتغيب، وأكثر استعداداً لاكتساب المعرفة وتطوير المهارات. في المقابل، تتصاعد التكاليف المرتبطة بالأمراض المزمنة والحاجة إلى الوقاية المتأخرة، مما يلقي بعبء ثقيل على كاهل الحكومات والأفراد على حد سواء. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن كل دولار يتم استثماره في مجال الوقاية الصحية يمكن أن يوفر ما بين ثلاثة إلى عشرة دولارات على المدى الطويل، وذلك من خلال تقليل تكاليف العلاج وتقليل الخسائر في الإنتاجية. والأمر لا يقتصر على ذلك، بل أصبح القطاع الصحي نفسه قوة دافعة للابتكار والاستثمار. الصحة الرقمية، والتأمين الصحي الذكي القائم على التكنولوجيا، وتحليل البيانات السريرية باستخدام أحدث التقنيات، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في التشخيص والعلاج، كلها أمثلة حية على اقتصاد صحي مزدهر وقابل للتوسع المستمر.

في المملكة العربية السعودية، يتجسد هذا التحول الإيجابي بشكل واضح في إطار رؤية 2030 الطموحة، والتي تضع الصحة في صميم جهود الاستدامة والتنمية البشرية المستدامة. لم تعد المسألة مقتصرة على مجرد تقديم الخدمات الصحية الأساسية، بل أصبحت تركز على بناء نظام متكامل لإدارة الموارد بكفاءة عالية، وتقليل المخاطر المحتملة، وتنمية الكفاءات الوطنية، وذلك من خلال استخدام أدوات اكتوارية متطورة، وإجراء تحليلات متعمقة للبيانات، وتطبيق آليات تعاقد مبتكرة تعزز مبدأ تحقيق أقصى قيمة مقابل المال المستثمر.

ومع هذا التغيير الجذري في النهج، تتغير أيضاً نظرتنا إلى الصحة. فبدلاً من اعتبارها مجرد حق اجتماعي، أصبحت استثماراً استراتيجياً في رأس المال البشري الذي يمثل الثروة الحقيقية للأمم. فالأنظمة الصحية الفعالة لم تعد ترفاً يمكن الاستغناء عنه، بل أصبحت ضرورة حتمية لبناء اقتصادات قادرة على المنافسة بقوة والصمود في وجه الأزمات والتحديات المختلفة، كما تجلى ذلك بوضوح خلال جائحة كوفيد-19 التي هزت العالم بأسره.

في الختام، يجب ألا يُنظر إلى الصحة على أنها عبء مالي واقتصادي، بل على العكس تماماً، فإن إهمال الاستثمار فيها هو العبء الحقيقي الذي يجب تجنبه. والأنظمة الصحية التي تستوعب هذا التحدي وتعمل على تطوير مؤسسات تمويل ذكية ومبتكرة، هي التي ستتمكن من رسم ملامح الاقتصاد العالمي في المستقبل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة